الجهود القانونية المبذولة من عديد الدول والمنظمات والحقوقيين لمحاكمة جرام الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، وقراءة في هشاشة موقف المجتمع الدولي حيالها، كلها أسئلة يناقشها الدكتور سعيد مقدم، الخبير الدولي والمتخصص في القانون الدولي وخاصة الأمين العام لمجلس الشورى المغاربي.
كمختص في القانون الدولي، دعت عدة دول على رأسها الجزائر إلى اتخاذ إجراءات قانونية ضد الاحتلال الإسرائيلي أمام المحكمة الجنائية الدولية. ما رأيك في هذه الخطوة ؟
تندرج دعوة الجزائر والعديد من البلدان المتشبثة بقيم السلام والأمن الدوليين، ضمن عقيدتها ومنطلقاتها المبدئية الرافضة لسياسة الكيل بمكيالين والإعفاء من المسؤولية والتهرب من المساءلة عن الأفعال التقصيرية واقتراف الجرائم الموصوفة المتكاملة الأركان، كما حدث ويحدث على أرض فلسطين التاريخية منذ نكبة عام1948 مروراً بمجازر أيلول الأسود وصبرا وشاتيلا والتشريد والتهجير ألقسري للشعب الفلسطيني الأعزل من أرضه وملاحقته حتى في المهجر كما حدث في بيروت مطلع الثمانينات من القرن الماضي وصولاً إلى تنصل العدو الصهيوني من التزاماته الدولية والخلقية ومخالفته للشرعية الدولية والقانون الدولي الإنساني، علاوة على تماديه وإصراره على تهويد الأراضي الفلسطينية والاعتداءات المتكررة على المقدسات الإسلامية والمسيحية بدواعي واهية وأسباب ملفقة بأبعادها الإستراتجية التوسعية الخبيثة المجسدة لشعار قيام كيانهم الاستيطاني على أطماعهم التوسعية : من النيل إلى الفرات.
إن الترسانة العسكرية الهمجية الاسرائلية وقوى الشّر التي تساندها و تمولها وتقف معها جنباً إلى جنب في المحافل الدولية لتوفير الحصانة لها وجعلها في منأى من أية مساءلة.وضعت نفسها في برج محصن يقيها من أية متابعة أو مساءلة أو إدانة في ظل النظام الدولي القائم وهيمنة القطبية الأحادية.
ومثل هذه المواقف و الأفعال والاعتداءات الوحشية المتواصلة الموصوفة بالأكثر فظاعة في تاريخ الإنسانية، تنفذ على مرأى ومسمع أعضاء المجتمع الدولي ضد الشعب الفلسطيني الأعزل الذي يتعرض كضحية لبربرية وهمجية الآلة الصهيونية التي لم تسلم منها حتى البنى التحتية على قلتها، من مستشفيات ومدارس ومساجد وكنائس ودور إغاثة للأمم المتحدة، بهدف إخلاء قطاع غزة وباقي الأراضي الفلسطينية تدريجيا من خلال التهجير القسري للفلسطينيين وتصفية القضية الفلسطينية، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني،كاتفاقية جنيف 1949 ونظام روما 1998 الذي دخل حيز التنفيذ عام 2002 .
هنا تقصد أن جرائم إسرائيل لا تعد و لا تحصى عبر التاريخ. اليوم تعالت أصوات كثيرة لمقاضاتها ما هي الجنح أو التهم التي ينبغي الاستناد إليها في هذه الدعوى ؟
لا تمر سنوات قليلة على الهدوء النسبي حتى تنشب حروب بين المقاومة وقوى الشّر الصهيونية، ترتكب فيه مجازر، يجمع الفقه والقضاء والقانون الدولي الإنساني على تكييفها بجريمة الإبادة الجماعية لشعب أعزل،جرائم تسري على أي فعل من الأفعال الرامية إلى هلاك جماعة قومية أو أثنية أو عرقية أو دينية، إهلاكا كلياً أو جزئياً.
أركان جريمة الإبادة الجماعية، في نظر الخبراء والقانون الدولي، قائمة على أساس الوقائع التي تُشّكل قاعدة شرعية، تجّند لها علاوة على العديد من البلدان، أكثر من 500 محام من أرجاء العالم، تقدموا بشكوى أمام محكمة الجنايات الدولية بتاريخ 9/11/2023. باعتبار أن هذه الجريمة وفقاً لأحكام المادة 6 من نظام روما التأسيسي تعد في نظر القضاء الدولي من أعلى الجرائم .
- تنفيذ التطهير العرقي والقضاء على المجموعات البشرية، و تهجيرها القسري لأكثر من 1.5 مليون نسمة من الساكنة،
- تعميم المجاعة والفقر، الحرمان من الماء الشروب والضوء وصعوبة التوصل إلى العلاج، وتحطيم البنايات والمنازل والبنى التحتية ككل،
- رفض تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره، وارتكاب جرائم حرب ( المادة8) وجرائم ضد الإنسانية .(المادة7 من الاتفاقية).
فإسرائيل ترى أن شعبها أسمى من غيره من الشعوب، من ذلك ما جاء مثلاً على لسان قائد الأركان الصهيوني، أن إسرائيل تتعامل مع الفلسطينيين كحيوانات ينبغي التخلص منها. بل أن الوزير الإسرائيلي قال بأننا نقطع الكهربا لأننا سنقطع البترول، كما أن الماء الصالح للشرب غير متوفر حتى للأطفال والمرضى .فقصد الإضرار، قرينة لا تقبل اثباث العكس في قضية الحال.
وهي لا شك أسباب كافية لمقاضاة مقترفيها..؛ فبالرجوع إلى السوابق القضائية نستشف بوضوح اعتمادها كأسباب يمكن التأسيس عليها لمقاضاة مرتكبيها. على غرار ما حدث في يوغوسلافيا سابقا وروندا كمرجعيات حديثة لتطبيقاتها.
ما هو المسار المتوقع لهذه الدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية من وجهة نظر سياسية وقانونية ، مع العلم أن القوى العظمى تقدم الدعم للدولة العبرية؟
الغاية من مقاضاة مجرمي الحرب الصهاينة يكمن في الرغبة في كبح جماح العدو الصهيوني و التوصل إلى إدانتهم. فلقد سبق للمجلس القضائي أن أصدر في عام 2004 مثلاُ رأيه بالقول بأن ليس لإسرائيل الحق في الدفاع الشرعي تجاه الشعب الفلسطيني بصفتها قوة احتلال، فهي فاقدة للشرعية وبأن الشعب الفلسطيني يحتاج إلى حماية.
فالمسألة معروضة اليوم ومنذ 9/11/2023على المحكمة الجنائية الدولية وينتظر أن توليها العناية المطلوبة، ففلسطين كما هو معلوم قد صادقت على اتفاقية إحداث المحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي فهي تتعامل معها أكثر منذ 2018. فالمطلوب أن يقوم المدعي العام بفتح تحقيق في مجموع الدفوع التي تقدم بها المدّعون. وهي الإجراءات القانونية التي يمكن أن تأخذ وقتاً قد يفوق الأربعة أشهر للنظر في وجاهة الأسباب والصفات للمدعين ودفاعهم المؤسسين قبل مباشرة أطوار المحاكمة.
وللعلم فإن من الأسباب المحفزة لإنشاء هذه المحكمة الدولية، وإقرار نظامها الأساسي، اقتناع المجتمع الدولي، بأن الجرائم الخطيرة تهدد السلم والأمن والرفاه في العالم، ومن ثمة التأكيد على أن أخطر الجرائم وأفضعها التي تثير قلق المجتمع الدولي، لا يجب أن تمرّ دون عقاب، وأنه يجب ضمان مقاضاة مرتكبيها على نحو فعّال منعاً لحدوثها. وهو الانشغال الذي ترافع الجزائر عنه بقوة في مختلف المنابر.
لقد رأينا أن دور التحالفات السياسية الاقليمية مثل جامعة الدول العربية وحتى الدولية، الأمم المتحدة على سبيل المثال، ليس لها وزن على الإطلاق في التأثير على عدوان الاحتلال الإسرائيلي، هل يمكننا القول أن هذه التحالفات فقدت نفوذها ؟
حاولت هذه التكتلات الإقليمية والدولية معالجة أسباب العدوان وتداعياته، ورأينا أن المسؤولين الأمميين كالأمين العام للأمم المتحدة مثلاً ومسؤولي الهيئات الأممية المكلفون بالمسائل الانسانية الدولية وحقوق الإنسان ،انتقلوا إلى عين المكان وأدلوا بتصريحات تدين في معظمها جرائم العدوان الصهيوني على الشعب الغزاوي الفلسطيني وحرمانه من أدنى الحقوق الإنسانية دون جدوى، حتى أننا شاهدنا استقالة البعض هؤلاء المسؤولين احتجاجاً على خرق القانون الدولي الإنساني وكافة النصوص والمواثيق الدولية، غير أن العدوان ضاعف غطرسته تحت مظلة البلدان الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي انخرطت في الحرب ضد الشعب الفلسطيني الأبي. فنحن نعيش سياسة الكيل بمكيالين للأسف، وحان الوقت صوناً للأمن والسلم الدوليين، مراجعة الطبيعة القانونية للمنظمة الدولية الأممية وصلاحياتها التي أعلنت عن تصدعها وعجزها على الاضطلاع برسالتها النبيلة، كاملة دون نقصان، في ظل سيطرة قانون الفيتو في مجلس الأمن الدولي وأصحابه كغنيمة تعود إلى منتصري الحرب العالمية الثانية .
نفس الوضعية يعيشها إتحاد المغربي، بصفتكم أميناً عاما للمجلس الاستشاري للاتحاد…
لايختلف التكتل المغاربي عن باقي التكتلات المماثلة، فهو أيضا أقام مداولات اتخاذ قراراته على مبدأ الإجماع، بحيث تنص المادة 6 من المعاهدة التأسيسية لعام 1989 أن لمجلس الرئاسة وحده سلطة اتخاذ القرار، وتصدر قراراته بإجماع أعضائه.
(وهو المجلس الذي لم ينعقد منذ دورة تونس عام1994). ممّا عطل وتيرة العمل الاندماجي رغم القواسم المشتركة العديدة التي تجمع أعضاءه، ولذلك فهو شأنه شأن التكتلات الجهوية والدولية المماثلة في حاجة ماسة إلى مراجعة طبيعته القانونية وأولوياته، لاسيما أنه عُدّ من بين أضعف التكتلات الإفريقية الثمانية المتواجدة قارياً.
لنبقى في منطقتنا المغاربية، ليبيا تعيش أزمة سياسية و مما تسبب في تأجير، أكثر من مرة، للإنتخابات الرئاسية و التشريعية. هل يمكن تفسير هذه الوضعية بغياب ارادة القوى الدولية المستفيدة من ذلك؟ ألا تعتقد أن كان بإمكان احتواء الأزمة في إطار الاتحاد المغاربي.؟
مع مرو الوقت أبان الملف الليبي على أنه شائك جداً ومتشابك، فلم تفلح لا جولات برلين الأولى والثانية بإشراف أممي دولي في حلحلة الصراع بين الإخوة المتناحرين ولا الآليات المحدثة لدفع عملية السلام والذهاب في كنف تغليب لغة الحوار والتوافق إلى بناء مؤسسات دولة الحق والقانون بواسطة تنظيم انتخابات نزيهة وشفافة، فليبيا تعيش اليوم بنظام قائم على تعدد السلطات وتوزيع الصلاحيات وتمسك أطراف الصراع بسياسة الأمر الواقع، اعتماداً على أحلاف داخلية وخارجية حالت دون التوصل إلى تحقيق أمن ووحدة القرار وسيادة الشعب.
لقد حاولت دول الجوار، مرافقة الأطراف المتصارعة في أفق التوصل إلى مخارج توافقية دون جدوى، بل حتى مبعوثي الأمم المتحدة اصطدموا بصلابة المواقف الليبية المتناقضة و إملاءات القوى الدولية الكبرى من منظورها الجيوسياسي والاستراتجي التي لاتعمل على تقليص المسافة بين التقارب السياسي والعسكري الليبي البيني.
وأملنا يظل كبيرا في أبناء ليبيا الشقيقة في تجاوز هذه المساحة من بوابات المصالحة الوطنية والعودة سريعا إلى أحضانها الطبيعية في أقرب وقت ممكن، لاسيما بعد التوصل إلى التوافق حول صيغ قانونية سياسية لمشاريع الدستور الليبي وقانون الانتخابات المصادق عليهما برلمانيا ً والانطلاق من هذه الارضية نحو تحديد تاريخ واحد وقريب لتنظيم الانتخابات الرئاسية والتشريعية معاً.
أما بخصوص دور الاتحاد المغاربي في المساعدة على حل النزاع الليبي الليبي، فينبغي القول بصدق بأن ذلك غير ميسًر في ظل حالة الاتحاد اليوم، بل وحتى الهيئات القضائية المحدثة في صلب المعاهدة لا تخول لها مثل هذه الاختصاصات.
الجزائر جددت على لسان وزير خارجيته، بمناسبة لقائه بالجزائر بالمبعوث الأممي إلى ليبيا، دعمها للأشقاء في ليبيا لأنهاء الصراع. أل تعتقد أن ليبيا بإمكانها الاستفادة من تجربة الجزائر في مجال المصالحة الوطنية ؟
نعم بالفعل لقد كان للجزائر أن نظمت جلسات عمل مع المسؤولين الليبيين في الجزائر، وتم عرض العديد من الاقتراحات البناءة المستمدة من تجربة الجزائر في مجال المصالحة الوطنية على سبيل الاستئناس، أين تم الترحيب بذلك مبدئيا دون تجسيدها عمليا.